الأربعاء، 11 يناير 2017

دراسة ورؤية فلسفية بعنوان { الثقافة لاتنشأ بقرارات فوقية } بقلم الكاتب نبيل عودة /فلسطين/ الناصرة

رؤية فلسفية:
الثقافة لا تنشأ بقرارات فوقية

نبيل عودة
لم نعد نسمع شيئا عن تيار الثقافة والفن الذي عرف باسم "الواقعية الإشتراكية "، جدير بالذكر أن هذا التيار احتل الواجهة الثقافية الإعلامية للتيارات الماركسية بعد ثورة اكتوبر وقيام الأتحاد السوفييتي، الإصلاح نفسه صاغه الأديب الروسي – السوفييتي مكسيم غوركي صاحب رواية "الأم" الرائعة، التي اعتبرت بداية أدب الواقعية الاشتراكية.
خلال عقود وجود الإتحاد السوفييتي أصبحت الواقعية الإشتراكية معيارا ل "ألأدب الجيد" و"الأديب المناضل الثوري التحرري" في مواجهة التيارات الأدبية "البرجوازية الإمبريالية المعادية للإنسان" حسب الصيغة التي روجها النظام السوفييتي وأتباعه ، لدرجة أن المدارس الأدبية التي برزت في الثقافة الإنسانية مثل المذهب التاريخي، المذهب الإجتماعي ، المذهب الجمالي، المذهب الكلاسيكي، المذهب الرومانسي، المذهب الواقعي (أطلق عليه أيضا اسم الواقعية البرجوازية)، المذهب الرمزي، المذهب الوجودي، المذهب العبثي وغيرها من التيارات الجديدة مثل تيار الحداثة وما بعد الحداثة... اختصرت كلها تحت صيغة "ثقافة برجوازية" مهمتها فقط تبرير النظام الرأسمالي الإستغلالي.. الخ، بتجاهل كامل لأعمال إبداعية إنسانية وفكرية غير مهادنة وداعمة لحقوق الإنسان ، وحق الشعوب المستعمرة بالتحرر من نير الإستعمار !!
أنا شخصيا تأثرت حتى النخاع بالأدب السوفييتي، بغض النظر عن تسميته واقعي اشتراكي كان بجذوره أدبا إنسانيا ، وقد قرأت تقريبا كل ما صدر من ترجمات الأدب السوفييتي، وكانت هناك دارا سوفيتية للنشر باسم "دار التقدم". طبعا بعض ما ترجم برزت فيه الدوغماتية الجدانوفية التي اضرت بالمضمون الجمالي.
أبواق الدعاية السوفييتية وأبواق اتباعها في الحركات الشيوعية روجوا بشكل واسع للواقعية الإشتراكية ، وما زال بعض نقاد الأدب يستعملون هذا الإصطلاح وكأن العالم لم يتحرك باتجاه مضاد حتى قبل سقوط الإتحاد السوفييتي وسقوط كل المفاهيم عن الواقعية الإشتراكية ، ولا أقول سقوط الأدب والفن الذي أنتج شكليا تحت صيغتها، لأنه كان أدبا إنسانيا رائعا بكل المقاييس.
هنا لا بد من سؤال: هل نشأ حقا تيار ثقافي بروليتاري باسم تيار الواقعية الإشتراكية ؟
الأسئلة الجوهرية: هل يمكن نشوء تيار ثقافي بقرار سلطوي وبأوامر من الحزب الحاكم وقادته، كما كان الحال في الإتحاد السوفييتي؟
هل هناك تشابه بين قرار إنشاء أدب الواقعية الإشتراكية ونشوء آداب للطبقات الإجتماعية السائدة في المجتمعات قبل المجتمع الإشتراكي ؟
هل ما عرف بأدب الواقعية الإشتراكية هو أدب عمالي؟ ثقافة بروليتارية موازية ومعارضة للثقافة البرجوازية؟
الثقافة البرجوازية، أو الواقعية البرجوازية كما يحب أن يسميها البعض، ظهرت إلى حيز الوجود منذ ستة قرون على الأقل، أي في عصر النهضة (الرينيسانس) وبلغت أوج تفتحها في القرن التاسع عشر، ويمكن رصد بداية التيار الثقافي البرجوازي في عصر الإقطاع مع بداية انشاء الصناعات الرأسمالية الأولى.
التاريخ يبين أن نشوء ثقافة جديدة لطبقة سائدة جديدة، يحتاج إلى حقبة من الزمن قد تمتد قرونا ولا تخضع لقرارات قوة سياسية ناشئة وأوامر فوقية لا علاقة لها بالواقع الإجتماعي وبالنهج الفكري السائد، أو بالرغبات لنظام سياسي أو حزب سياسي.
حتى لو قبلنا فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي لم تطبق إطلاقا بل طبقت ديكتاتورية قيادات حزبية لم يلتزموا إطلاقا بالفكر الطبقي الماركسي الذي ادعوا أنهم يمثلوه ويطبقوه. لأنه حتى الدولة الإشتراكية بمبناها لم تختلف عن مبنى الدولة البرجوازية ( ولكنه موضوع آخر) المهم أن مفهوم طبقة البروليتاريا كانت نقلا عن واقع عايشه ماركس في كومونة باريس، وتلاشى هذا المفهوم بسرعة لأنه كان ظاهرة عابرة، وحتى مفهوم الصراع الطبقي التناحري بين البروليتاريا ( او الطبقة العاملة) والبرجوازية  الذي يقود إلى إسقاط النظام البرجوازي وبناء نظام شيوعي ( حسب نظرية المادية التاريخية لماركس) لم تثبت صحتها  نظريا، أكثر من ذلك لم تنشأ البروليتاريا إلا في عدد من الدول الأوروبية المتطورة اقتصاديا ولم تنشأ أي بروليتاريا خارج أوروبا ، وظاهرة البروليتاريا ارتبطت بقوانين الأراضي  في الدول البرجوازية التي قادت إلى خراب المزارع وإغلاق مساحات شاسعة من المراعي لصالح الصناعة والتطور الرأسمالي، فتدفق الفلاحون المنكوبون لبيع قوة عملهم لدى أصحاب المصانع...وشكلوا الجزء الأكثر فقرا واستغلالا في أوساط الطبقة العاملة،  كان من الخطأ  جعل اصطلاح البروليتاريا شموليا لكل الطبقة العاملة، لأنه اصطلاح يخص الفئة الأكثر إملاقا في المجتمع، أصل الإصطلاح من الدولة الرومانية القديمة حيث أطلقت هذه التسمية على الفئات الأشد فقرا في المجتمع المعفيين من الضرائب.   حتى الثورة الاشتراكية في الإتحاد السوفييتي لم تكن ثورة بروليتارية بمضمونها، بل ثورة جمهورها الأساسي من الفلاحين الذين تلقوا وعودا بالحصول على الأرض من لينين قائد ثورة اكتوبر. 
لا أكشف أي جديد بالقول أن النظام السوفييتي كان بعيدا عن الماركسية (شوهها لينين وقبرها ستالين) التي ادعى أنها نظريته لبناء الإقتصاد ، والمجتمع  والدولة. وقد سقط النظام مع أول محاولة للتصحيح حاول أن يقوم بها الرئيس السوفييتي الأخير غورباتشوف لإنقاذ المجتمع والإقتصاد السوفييتي.. لسبب بسيط، أن الجماهير فقدت ثقتها بالجذور الفكرية التي روج لها النظام بصفتها عدالة اشتراكية وحقوق إنسان ورفاه اجتماعي ومسابقة مع الغرب الرأسمالي للتفوق عليه، بينما كل الدلائل أشارت إلى تخلف النظام السوفييتي في المسابقة الإقتصادية ومساحة الديمقراطية المتاحة ومستوى الحياة للمواطنين.
كل ما تبقى من تيار الواقعية الإشتراكية كان مجموعة من الدوغماتيين المتمسكين بأوهام لم يتحقق منها شيء في الواقع، والثقافة التي سادت عالمنا ظلت الثقافة البرجوازية، التي طورت أساليب ومدارس جديدة، تميزت بالفهم الإنساني للواقع، وليس بالكتابة حسب نظريات وقيود فرضت على المبدعين، دمرت الثقافة ودمرت الأدباء وعاقبت بعضهم بسبب إعجاب الغرب بإبداعهم الأدبي.
إذن نشوء تيار ثقافي جديد لا علاقة له بالنظام أو بالقرارات الفوقية. ولا بتعيين قوميسار للثقافة أشبه بقائد عسكري يصدر أوامره للكتاب والفنانين حول ماذا يكتبون.
اشتهر القوميسار الثقافي السوفييتي المعروف باسم جدانوف وتعبير قوميسار من اللغة الروسية كان صفة لضباط سياسيين ملحقين بالوحدات القتالية، وأصبح اسم القوميسار جدانوف يرمز  للتزمت السياسي والإنغلاق الثقافي والقمع للمفكرين والأدباء، وإعطاء الأوامر للمبدعين حول ما هو مقبول للنظام وما هو مرفوض ثقافيا وفنيا، لدرجة التدخل بفرض مضمون لشخصيات أبطال  النصوص الأدبية أو الفنية وما هي المضامين التي يجب الإلتزام بها.
جدانوف وصم مرحلة كاملة باسمه وصفت بـ "الجدانوفية"، استمرت بعد وفاته أيضا، فرضت على الأدب السوفييتي نهجا متزمتا ألحق الضرر بالدولة السوفيتية وبالأدباء والفنانين، وبعضهم واجهوا النفي في سيبيريا وغير ذلك من وسائل القمع.
نهجت الجدانوفية على تأميم العقول وقمع الإبداع الثقافي والفني الذي تواصل بعد ستالين أيضا ، من الموبقات التي ارتكبت أشهرها طرد وتجريد  الكاتب الكبير سولجينتسين من جنسيته السوفيتية عام 1974 وهو في منفاه (من أشهر اعماله روايتيه "أرخبيل غولاغ" و "يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش" حيث فضح واقع معسكرات النفي والعمل القسري في سيبيريا) ، وتعرض الشاعر والروائي بوريس باسترناك لحصار شديد لقيامه بكتابة روايته الرائعة "دكتور جيفاكو" التي منعوا نشرها في وطنه وكان تبريرهم في منعها أنها تسيء إلى الثورة البلشفية،  فاضطر أصدقاء باسترناك إلى تهريب "دكتور جيفاكو" إلى الغرب ونشرت الرواية هناك ومنح باسترناك جائزة نوبل للآداب عنها، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. الرواية لم تكن أبدا معادية للثورة البلشفية، إلا إذا اعتبرنا نقد التصرفات الغوغائية عداء.
إذن يمكن القول بدون تردد ، أن الثقافة لا تتطور حسب فرض من السلطة أو الحزب، من هنا سقط واختفى تيار الواقعية الإشتراكية . رغم أن الإبداع الثقافي السوفييتي حتى الذي التزم (تحايلا) ببعض شروط الرقابة الجدانوفية كان إبداعا راقيا ورائعـا.
ربما تكون الجدانوفية التي استمرت بعد جدانوف من محركات الغضب التي ساهمت بإسقاط  النظام السوفييتي أيضا. اليوم لا أجد كاتبا روسيا واحدا يبكي على سقوط النظام السوفييتي. وبالطبع لم أعد أسمع عن بدعة الواقعية الاشتراكية.

nabiloudeh@gmail.com
بقلم نبيل عودة
فلسطين الناصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق