الأربعاء، 9 أغسطس 2017

الجلسة الاولى / بقلم الكاتبة والشاعرة فائزة جوادي/ تونس سوسة

الجلسة الأولى...

هي تحتاج أن تبثه كل ما خبأته داخل صندوقها من أسرار ، تشكو إليه  كل ما يتراقص فيها من وجع، تحدثه عن أشياء دفينة ردمتها في بئرها العميقة منذ طفولة مشبعة بالحرمان، تدفع خارجها ما كان يخزها بأشواكه كلما حاولت أن تعيد ترتيبه فيحرقها بلهيب ناره من تحت رماد الذكريات، تريد أن تتخلص من وزرها، تضع حمل سنين عجاف تقوس ظهرها من وزنه الثقيل، تثرثر له بدون انقطاع ، تنسج له حكايتها من خيوط متشعبة تداخلت أطوارها فتقاطعت ثنايا و توازت أخرى.

تباطأت خطواتها إلى الوراء، تثاقلت قدماها كأنها تمشي في الطين الذي سقته أمطار الشتاء، كلما رفعت ساقا غاصت الأخرى في عمق التردد، يجذبها إليه فتنساب معه بلا مقاومة فيحزم عزمها إلى الفرار منه ككل مرة.

يتمكن من أوردتها الخوف، يتجمد الدم فيها لم يعد يصل إلى  دماغها الذي استقال من مهامه في مثل هذه المواقف، استلمت المأمورية شراين تدفع الدماء إلى  القلب تحصرها حبيسة دقات ضاجة و صاخبة، تسمع من وراء جدار صدرها الذي تمكنت به شهقات عاتية كريح عاصرة، تدك أسواره انحباس في هبوب الأكسجين إليها، فترسل روحها إشارات بقرب موعد الرحيل، حتى تستعد له و تنهي ما علق على لوحة أجندتها.
تنطفئ الشعلة الحارقة من انتفضات القلب، تهدأ ثورة صدرها بقرار الإنسحاب  من الحلبة من الجولة الأولى، لم تعتبره هزيمة بقدر ما تراه فرصة أخرى لمراجعة موقفها و التحضير للجولة القادمة.

تعود بعد العاصفة ساكنة تجرها الهزيمة، عيونها تخاطب الأرض، صمت يعوي داخلها، هزيمة تعزف على أوتار ندمها، ندم ازدوجت سبله، بين ندمها المتواطئ ضد أقدامها  على ضرب موعد معه، حسرة على دفن جثة الشجاعة فيها، رأس نعامة غرسته في الرمال حتى تمر قاطرة أحاسيس اللوم العنيد، مشاعر متشابكة كغزل تلاعبت بخيوطه أشواك شجرة السدر.

لا تنتهي رحلتها بتآكل ساعة الموعد، تتقد هواجس تحرق ثلج برودها، تمسك معولها و تصوبه نحو طبقات الكلس المرصوفة بإتقان في مخزن فكرها، تتناولها الإبر بوخزات متتالية حتى يتجمد الحس إلا من سكرات الوجع، تدخل في غيبوبة طويلة كليلها الشتوي، تنتهي بلحظات كرى متفرفة، يجلدها صوت آت من بعيد لا تكاد تفك ذبذبانه، تصحو مذعورة من كابوسها الذي لا يخلف معها موعدا فتتوعد و تهدد من جديد بإصرار خفي ينتظر التنفيذ.

تمردت الأصوات في رأسها حتى تصدعت من لكمات الندم المغموس بضربات الخيبات، خانت الأصوات الميثاق و ثارت على سجن الحروف، أصبحت تكلم نفسها في الطريق، جلبت لنفسها نظرات اختلف مذاقها، حارة كشمس شهر أوسو، باردة كتجمد مشاعر الناس اتجاه بعضها، نظرات قاسية كحكم قاضي لا يفقه روح الرحمة، ابتسامات مزروعة بالتهكم و السخرية، صارت الشابة لا تكتفي بالحديث مع ذاتها، بل توجه خطاباتها إلى كل من يعترضها، تواصل معه حوارا كانت بدأته مع غيره و قد تنهيه مع ثالث و رابع...
استاء أحد من تبقى من أهلها مم أصابها، قرر أن يساعدها لعله أشفق عليها، أو لعله أشفق على اسم  العائلة، حيث أنها تركت منزلها هاربة من الليل إلى  أنوار الشارع و إلى ضياء الشمس في حديقة المدينة، تلهو أحيانا مع صبية يضربونها و يفرون هاربين فتلحقهم لتبادلهم ودهم، خاف ابن خالتها من أن يهدر ما يخاف عليه أكثر شيء عند فتاة فائقة الجمال مثلها أما الباقي فغير مهم أن ينكسر فيها أو يتحطم كقلبها و روحها الشفافة كأنها حبة كريستال.

استفاقت من جرعة إبرة مهدأة للأعصاب التي أعطاها لها الطيب بعد موجة من هيجانها، حاولت أن تتعرف على المكان بعيون باحثة عن شيء يتطابق مع محتويات ذاكرتها.
بكل قوة أعصابها الخائرة أرادت أن تستل تلك الخيوط التي وصلوها بجسدها و الرباط الذي ضاق على خصرها، مكابح من حديد تحيط ساقيها، آذتها كثيرا انتفاضتها العنيفة، رغم رقة ملامحها ورثت تلك القسوة من الأيام و ما سكبته لها من حنظل، حاولت أن تصرخ في وجه الفراغ كعادتها لكن صوتها ارتد صداه إلى الداخل، لولا أن الممرضة أخرجتها من دوامتها بقولها" أنت بخير، أنت في مستشفى الرعاية النفسية" لم تستوعب في بادئ الأمر المعنى و لا فحوى ما قيل لها.

سرحت مع هواجسها، رغما عنها هي في المكان الذي هربت من بابه مرارا و ارتدت عنه عزائمها، لازالت رغبة إفراغ ما بداخلها قائمة، تطايرت من فكرها عدة أسئلة كحمائم فارة من صياد أصابها هلع صوت البارود.

استنفرت كل حواسها عندما أطل ذلك الطبيب من باب الغرفة، تراقصت على رأسها أحاسيس متناثرة لم تعد تتحكم في فرائسها، ارتجاجها هذه المرة من الداخل.
ألقى عليها بسمة و تحية خافتة، و نبس بكلمات مهدأة لروعها، فك عنها القيود و أجلسها على كرسي مستلق على الأرض كأنها على شاطئ البحر، و طلب منها أن تلقى جسدها و تسترخي، تناول ملفها، قرأ محتواه ثم رفع عينيه نحوها و هم بسؤالها لم تهربين من مواجهة نفسك؟

لكنه صمت لبرهة و طلب منها أن تحكي عن نفسها و كأنها تحدث نفسها، حيث الروح للروح، أن تكسر كل قيودها، تفك ضفائر عقدها التي ربطتها بإحكام حتى لا يغر منها شيء عليها أن تبحر في عمق نفسها و تجلب من قعرها كل ما التصق هناك.
بالرغم من كونها انتظرت كثيرا تلك اللحظة لتخرج من زنزانة كبتها إلا أنها لم تعرف أي خيط تمسك، من أين تنطلق من البداية أم من النهاية، أ تطنب في حديثها أم الإختصار أسلم؟

هجم هول الصمت على المكان حيث لم يعد يسمع للصوت نبسة، صدى كلمات الطبيب دارت في أرجاء الغرفة مرتجة إلى أذنيها فملأتها حيرة و خوفا من المجهول رغم أنها تعرف أدغال غابتها بأدق تفاصيلها، عاودها الصوت ثانية برفق لا تخافي على أسرارك سندفنها بين أوراق ملفك و حاولي أن لا تتركي ريشة على ظهرك، انتفي كل ما يأسر روحك، نقيها من كل شائبة متطفلة على حقولك.
ساعتها تسلمت عهد الأمان فأطلقت سراح لسانها لينطق عن المسكوت و يفك رباط المكبوت...

فائزة جوادي
تونس سوسة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق