الأحد، 2 أكتوبر 2016

بحث بقلم الأديب والشاعر خالد خبازة ....سورية /اللاذقية

لغتنا الجميلة

في علم البيان و البديع :

البحث الثاني

كنا تحدثنا في البحث الأول  في موضوع الاستعارة  ..  وماهيتها ..  و أن على الشاعر أن يكون ملما بقواعدها 
و تحدثنا كيف كان أجدادنا من الشعراء ,, يميزون بين الشعر الحقيقي و بين النظم الذي  لم يكونوا يعتبرونه شعرا  .. و ذكرنا كيف كان رد عبدالملك بن مروان على الراعي النميري عندما جاءه مادحا فأجابه : هذا ليس شعرا  .. و انما شرح اسلام و تفسير آية . ورأينا  كيف استهزأ مروان بن أبي الجنوب بشعر علي بن الجهم  ..

و تأكيدا لهذا المبدأ أي تمييز العرب الأوائل بين الشعر و النظم  نقول :
 
سأل الوليد بن عبدالملك جلساءه أن ينشدوه أوصف شعر قالته العرب . قال احدهم ، هو قول امرئ القيس :

و تعرف فيه من أبيه شمائلا ... و من خالد و من يزيد و من حجر
سماحة ذا و برّ ذا ووفـاء ذا ... و نائـــل ذا ، اذا صحا و اذا سكر

فقال أحمد بن عيينة  : 
" ظن العرب مثل هذين البيتين كأنهما حديث و ليس بشعر " .

و لعل عبارة ابن عيينة تشير الى وضوح الصورة في ذهنه ، أي الفارق بين اللغة الشعرية و اللغة النثرية العادية .

اضافة الى ذلك فان " دعبل بن علي الخزاعي " أقام حدا بين اللغة الشعرية و الخطابة في التفاتة لا تخلو من الاعتداد باللغة الشعرية . يقول منتقدا  شعر  أبي تمام :

" ان أبا تمام لم يكن شاعرا .. انما كان خطيبا ، و شعره بالكلام اشبه منه بالشعر  "  . 

فبالرغم من أن مكانة أبي تمام الشعرية لا مجال للنقاش فيها .. الا أن دعبلا أراد أن ينال من شاعرية أبي تمام  مشبها شعره بالخطابة  .

و كان الفرزدق قد اتهم الكميت حين عرض هذا الأخير عليه شعره بقوله :
" أنت خطيب " .  و قد رأى الشريف الرضي أن الفرزدق ، انما سلم له الخطابة ، ليخرجه عن أسلوب الشعر  .

لقد وصل  الخلاف  بين اللغويين و النحاة  الى الذروة ، حين انتقل السجال الى الضرورة الشعرية ، وهي التي تقبل من الشاعر خرق القواعد النحوية لدوافع فنية .. و ان ما يقوله الشعراء هو شأن ابداعي لا يجوز للنحاة تخطئته ، و انما عليهم أن يلتمسوا له وجوها من التأويل ، و هذا ما قال به الخليل بن أحمد الفراهيدي :

" الشعراء أمراء الكلام ، يصرفون أنى شاؤوا ، و جائز لهم ما لا يجوز لغيرهم ، من اطلاق المعنى و تقييده ، و من تصريف اللفظ و تعقيده ، و من مد مقصوره ، و قصر ممدوده ، و يحتج بهم ولا يحتج عليهم " . ..

و اذا كان العرب قد فرقوا بين الشعر و النظم .. لذا كان على الشاعر  أن يكون مطلعا على أسرار الصناعة الشعرية .. و قواعد البيان و البديع  ملما بها ..  ليكون نظمه شعرا حقيقيا و ليس نظما قريبا من النثر  .. 

و بعد أن تحدثنا عن  " الاستعارة " في البحث الأول  .. نتحدث في هذا البحث  عن  " الكناية  "

الكناية  :

هي أن يأتي الشاعر بعبارات أو بألفاظ  تحمل معان معينة .. و لكن يستشف منها معنى آخر قصده الشاعر

وكذلك ، أن يذكر المتكلم شيئا ، و هو يريد شيئا آخر ، كقولك : فلان نقي الثوب ، أي لا عيب فيه ،
و طاهر الجيب ، أي ليس بغادر ،
و دنس الثوب ، أي فاجر ،
و مغلول اليدين ، أي بخيل ،

و منها قول الرسول ( ص ) :
" اياكم و خضراء الدمن "  و هي المرأة الحسناء في منابت السوء .
.. الخ .. و الأمثلة كثيرة .

و قد ميز أسامة بن منقذ في كتابه " البديع في البديع في نقد الشعر " بين الكناية و الاشارة ، بالرغم من تقاربهما كثيرا ، و أنهما من بنية واحدة . يقول :

اعلم أن الفرق بين الكناية و الاشارة ، أن الاشارة  الى كل شيء حسن ، و الكناية ، الى كل شيء سيء .
كقوله تعالى : "  فيهن قاصرات الطرف " اشارة الى عفافهن .  و كقوله تعالى : " فرش مرفوعة " اشارة الى  نساء كرام . وكقوله : " أرضا لم تطؤها " اشارة الى سبي النساء .
و قوله تعالى : " كانا يأكلان الطعام " كناية عن قضاء الحاجة ..
و أنني  لست أرى فارقا بين الاشارة و الكناية .

و من الأمثلة عن الكناية
قول العرب : طويل نجاد السيف  . كناية  الى ارتفاعه عن الدنايا .
و كقولهم : فلان عظيم الرماد ، او ناره لا تطفأ  ، هي كناية  الى كثرة القرى و الكرم .

و أروي هنا قصة طريفة حول الكناية :

و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :
أشكو اليك قلة الجرذان . قال :
ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .
فهي لم ترد أن يكون بيتها مليئا بالجرذان  .. و انما هي أشارت كناية  الى خلو بيتها من المؤونة  .

و رأى أحدهم رجلا سمينا  .. فقال له :
أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك

و لذا ،  انني أرى أنه لا حاجة بنا الى التمييز بين الاشارة و بين الكناية ، كما يراها أسامة بن منقذ في كتابه  البديع في البديع.. فالاشارة ما هي الا كناية ، سواء أكانت اشارة الى شيء حسن ، أم كانت كناية الى شيء سيء . فجميعها تدخل فيما يسمى في علم البديع  " الكناية " .

و ان أسبق الناس الى الكناية ، و الى هذا المعنى ، امرؤ القيس ، في قوله :

و يضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

يعني بقوله نؤوم الضحى ، أنها مخدومة من بنات الملوك .

و يقول عمر بن أبي ربيعة :

بعيدة مهوى القرط ، اما لنوفل ... أبوها ، و اما عبد شمس و هاشم

و يقصد بقوله بعيدة مهوى القرط .. مشيرا الى طول عنقها و هو كناية جميلة .

و يقول عنترة :

بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ، ليس بتوأم

السرحة : مفرد سَرْح ، و هو الشجر الكبير و الطويل ، يستظل تحته .
و قد أشار عنترة الى أن ثيابه في سرحة .. كناية عن طول قامته ، و قصد بقوله : يحذى نعال السبت ، الى أنه ملك ، و بقوله : ليس بتوأم ، الى أنه قوي شديد .

و قد أعجبني في موضوع الكناية ما كتبه عمرو بن مسعدة الى المأمون :

"   أما بعد .. فقد استشفع بي فلان ، في الحاقه بنظرائه ، فأعلمته أن أمير المؤمنين ، لم يجعلني في مراتب الشافعين ، و لو فعلت ذلك ، لتعديت طاعته ..  و السلام .. " 

فوقع المأمون في كتابه :

" قد عرفنا تصريحك له ... و تعريضك لنفسك .. فأجبناك اليهما ، ووقفناك عليهما .."

و من الكنايت الجميلة أيضا قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة :

و ان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب

و انني لم أر في شرح موضوع الكناية هنا ، أحسن مما  جاء في أطروحة الصديق المحامي  الدكتور أحمد مبارك الخطيب " الانزياح الفني  في شعر المتنبي  "  التي نال بها شهادة الدكتوراه في الادب ، حيث يقول في تحليل البيت المذكور ما يلي :

"  يقول أبو محسّد "  المتنبي " :

وان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب

   فالمرثية .. أخت سيف الدولة تنتسب الى قبيلة "  تغلب " العزيزة المنيعة " الغلباء " فهناك القبيلة ، و بنت القبيلة .. و اذا كانت القبيلة ذات شأن فان لابنة تغلب ( اخت سيف الدولة ) المزايا و الصفات ما يفوق قبيلتها .. و هو ما يفهم من الشطر الثاني من البيت .. فالعنب بالرغم من جودته ، فانه يتحول الى مادة أكثر جودة ، و هي الخمر .. و ان الشاعر يريد أن يقول : ان المرثية تحمل من الصفات و المزايا ما يفوق أصلها ، بالرغم من أنه أصل كريم ، فلجأ المتنبي الى التعبير الكنائي و انزاح عن التعبير الأصلي ، ليؤدي هذه الصورة الشعرية المبتكرة ، وهي دليل على أن طرفي الشطر الأول ، القبيلة و ابنة القبيلة ، ينهضان معا في موازاة الشطر الثاني ، العنب و الخمرة .. اذا بذلك التقابل بين المعنيين ، نستطيع أن نجد للفكرة معادلها اللغوي ، و بها تتحول عاطفة المتنبي الثرية نحو الموضوع الى مادة لغوية أكثر ثراء ..  "

......

خالد خبازة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق