بـســــم اللـــــــه الـرحـمــن الـرحـيــــم
كـلمـــة :في " لـغـتنــا الـعـربيــة الجمـيــلـة "
بقلم : سـعـيـد تــايـــه
اللـغـة كما هو معروف هي الأداة التي يتم بها التفاهم بين الناس ، وهي الوسيلة التي يعبر بها المـرء عما يجولُ بخاطـره من أفكار وما يعتمل في فؤاده من أحاسيس، وما يختلج في نفسه من العواطف. وهذه اللغة يتوارثُهـا الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل ، يفخرون بها ، ويَـعتـزونَ بها ، ويبذلون كلَّ ما في وسعهم للحفاظ عليها ، والنهوض بها لأنها المرآةُ الصافية التي تعكس واقع حالهم ، إذ بها يتم تسجيل أخبارهم ، وتتواصل بها سيرتهم على مَـرِّ الأيـام ، وفي كل العصور، وفي كل الأمصار ، تـرقى برقيهم ، وتنهضُ بنهوضهم ، كما أنها تنحدرُ بانحدارهم، وتستكين باستكانتهم ، وهي بذلك لسان حالهم ، صعوداً وهبوطا، ارتفاعاَ وانحداراً. ولغتنا العربية الجميلة هي بحق أسمى لغات أهـل الأرض قدراً وأرفعها منزلةً ، وأعلاها شأناً ، وأوسعها تعبيرا ، وأعمقها إيحاءً ودلالةً ، وأكثرها اشتقاقاً وثراءً، وأبهجها رونقاً وبهاءً ، وقد بلغت من الذوق الرفيع ، والجمال الفني البديع ، والإمتاع النفسي الرهيف شأواً لم تبلغه أيُّ لغةٍ من لغات العالم . وهي فوق ذلك كله ، تعتبر من أمتن الروابط، وأعمق الصلات بين أبناء العروبة من المحيط إلى الخليج ، وبين جميع المسلمين في سائر أنحاء المعمورة.
ويكفي لغتنا العربية الجميلة فخراً ، وشرفاً وكرامةً ، وعزاً وتيهاً تتيه به على سائر لغات الدنيا أنَّ القرآن الكريمَ ، كلام الخالق العظيم ، إلى عباده المؤمنين ، نزل بهذه اللغة الجليلة ، قال عـزَّ مِـنْ قائل ( إنَّـا أنْزَلْنَـاهُ قُـرآنَـاً عَـرَبِـيَّـاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُـونَ ) سورة يوسف آية 2 ، وقال جَـلَّ جلالُــهُ : ( كِتابٌ فُصِّلَـتْ آيَاتُـهُ قُـرآنَاً عَـرَبِيَّاً لِقـوْمٍ يَعلَمُونَ ) سورة فصلت ، آية 3 .
وبعـد ،
أليسَ من حقِّ لغتنا العربية الجميلة علينا ، أن نبذل قصارى جهودنا من أجل فهمها، واستيعابها، وتطويرها والنهوض بها لتأخذ مكانها اللائق بها بين لغات أمم الأرض؟
كيف لا ، وهي رمز وحدتنا ، وعنوان تقدمنـا ، ونبراس حياتنا ، ومشعل ازدهارنا.
من واجب الوجوب علينا ، صيانتها ، والمحافظة عليها ، والوقوف في وجه الشعوبيين وأمثالهم الَّذين يشيعون زوراً وبهتانا أنها لغة قاصرة ، لا قبل لها على مجاراة العصر بما فيه من تقدم في شتى نواحي العلوم والمعرفة ، ولو أننا استقرأنا الواقع ، وتأملنا فيه برويَّةٍ وأنـاةٍ ، لرأينا أن العيب كلَّ العيب موجود في مَـنْ يرمي لغتنا بالتقصير عن مسايرة ركب العلم لأنه المقصِّـرُ حقاً في فهمها ، وفي القدرة على التعبير بها . لقد سبق للغتنا أنْ كانت لغة العلم والثقافة والأدب والفكر في العصور الإسلامية الزاهرة ، يوم كان أصحابها الأوائل يعتزون بها ويدركون كنهها، ويُسطرون علومهم بها ، فكانت بحق لغة العصر ، وكان الدارسون من كل الأجناس ينهلون العلوم المختلفة بلغتنا العربية العظيمة ، ولو أننا اليوم نفهم لغتنا حق الفهم ، ولو أن كل طبيب أو مهندس أو عالم في شتى أنواع العلوم يقوم بالتعبير عما يريد بلغته العربية الأصيلة ، ويقوم بنقل كل ما تعلمه في الخارج إلى لغته الأم لتغير الحال، ولو أن جامعاتنا المنتشرة في أرجاء الوطن العربي الواسع تعمل على تدريس المواد الجامعية باللغة العربية كما تفعل جامعات الأمم الأخرى التي تتعصب للغاتها ، حتى وإن كانت من اللغات التي ليس لها تاريخ أوحضارة ، لو فعلت ذلك لكان شأن لغتنا في عالم اليوم غير ما هو عليه الآن.
أليس من العيب أن تستمر جامعاتنا حتى اليوم في تدريس العلوم وغيرها من مواد باللغـات الأجنبية متجاهلة بذلك لغتنا العربية الأصيلة ؟ ربما كان هذا الأمر مقبولاً في مرحلة إعادة تكوين الذات ، وبناء الأساس وتحديد نقاط الارتكاز ثم الانطلاق إلى الأفق الأرحب ، أما وقد أصبح لدينا العديد من الجامعات والعديد من المؤهلين علميا وثقافيا وفي جميع الاختصاصات ، فإنه ليس من المستساغ ولا المقبول وطنيا استمرار الحال على هذا المنوال خصوصا وأن هناك جامعاتٍ عربيةً تقوم بتدريس شتى العلوم من طب وهندسة وعلوم متنوعة باللغة العربية منذ أمد بعيد، وقد أثبتت جدارتها وتفوقها في هذا المجال.
ولست أجد أبلغ من رد شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله على أؤلئك الذين يرمون لغتنا العربية الأصيلة بالعقم والتقصير ، حيثُ قال :
( رموني بِـعٌقْـمٍ في الشَّبَـابِ وَلَـيْـتَني عقِـمـتُ فَـلَـمْ أجـزعْ لِـقـولِ عُـداتي )
(وَلَـدتُّ وَلَـمَّـا لَـــمْ أجِـــدْ لِعَــرائِسي رِجَـــالاً وَأكفـــاءً وَأَدتُ بَـنَـــاتِــي )
(وَسِـعـتُ كِـتَابَ الَّلــهِ لَـفـظَـاً وَغـايَـةً وَمَـا ضِقـتُ عَـنْ آيٍ بِـــهِ وَعِـظَاتِ)
( فكيفَ أضيقُ اليومَ عنْ وصـفِ آلـةٍ وَتَـنســيقِ أسـمَــاءٍ لِـمُخـتــَرعــاتِ )
( أنا البحرُ في أحشائِـهِ الـدُّرُّ كـامِنٌ فهـلْ سَألُـوا الغـوَّاصَ عن صَدَفاتي )
لُغتنا العربية يا قوم ، مطعونةٌ في ظهرها ، مجروحة في كبريائها ، من أهلها ذلك لأننا نرى طلاباً وأساتذةً ، أطباء ومهندسين ، محامين وخُطباءَ مساجد ينصبون الفاعل ، ويرفعون المفعول به أثناء تحدثهم بها سواء أكان ذلك شفاهةً أو كتابة مقروءةً .
ومن المؤسف حقا ، والمحزن أيضاً أنْ ترى طالباُ جامعيــاً يكتب كلمــة
( منذُ ) هكذا .. مُنْ ذو .. وآخر يكتب كلمة ( لكن ) هكذا"لاكن" وكلمة
( هؤلاء ) يكتبها هكذا .. هـاؤلائي .. وهلمَّ جـرّا.
ولكن الأكثر إيلامـاً هو أن تجد أكثر من 98 % ممن يكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي ، لايعرفون كيف تكتب الهمـزة ، فيكتبونها بطرق تنبو عن الذوق ، كما أنهم يضعون في كتاباتهم حروفاً بدلاً من الحركات فعلى سبيل المثال لا الحصر يكتبون أنـتِ ( أنتي ) ويكتبون عليكِ (عليكي ) ، وهكذا دواليك. لذلك ، تحتاج منا لغتنا العربية الجميلة إلى وقفة تأمل ومراجعة للذات لكي تعود الأمور إلى نصابها ، من أجل أن تستقيم الألسنُ المعوَجَّـةُ ومن أجل أن تعود للغتنا حلتها القشيبة من الألفاظ السامية والمعاني الجليلة. إنَّ الاستمرار في تجاهل هذه اللغة العريقة والتقاعس عن النهوض بها ، يُعتبر تخلياً عن التاريخ بكل ما يجسِّدُهُ من معنى وما يمثله من أصالة . إنـه تخـلٍّ عن الهوية وانهزام أمام المسؤولية ، وتقاعس عن أداء الواجب ، وفرار من مواجهة الواقع. إنَّ لغتنا العربية الجميلة ذات الذوق الرفيع ، والأسلوب الفني الأصيل البديع والتي يعتبرها لغويو العالم أعظم لغات أهل الأرض ، تحتاج منا أن نفهمها ، ونتذوقها ، وأن نغوص بين جوانبها ، للوصول إلى لآلئِهـا وجواهرها ، وحينئذٍ يستقيم بها وبنا الحال ، فنبلغ بها وتبلغ بنا غاية القصد وأشرف المنال.
لقد اعترف الأجانب من المستشرقين والغربيين بأهمية اللغة العربية ودورها الكبير في تاريخ العلم والمعرفة والحضارة : فهذا إيرفنغ ( IRVING ) الألماني يقول عن قدرة اللغة العربية على اشتقاق الألفاظ وظواهرها الصرفية العجيبة بأن هذه القدرة في اشتقاق الألفاظ تقودنا إلى هذه الثروة الغنية المدهشة من المفردات التي نراها حينما نتكلمُ اللغةَ العربيةَ . إن الجذور الصرفية العربية الكثيرة جدا ، إضافة إلى الموازين الصرفية الكثيرة جداً أيضا ، تجعل اللغة العربية من أوسع وأعظم اللغات في العالم ، وهي لغة عظيمة يجدر بنا أن تعلمها. ويقول المستشرق الألماني " مزنباك " معترفا بدور اللغة العربية الكبير في تاريخ العلم والمعرفة : ( ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب ، بل إن الذين نبغوا فيها في التاريخ لا حصر لعددهم ) ويقول الدكتور الأستاذ أندريه رومان استاذ اللغويات وأستاذ اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة " إكس سـان بروفانس " : ( إنني فرنسي ، واللغة الفرنسية لغتي أعتز بها وأتعشقها وأنافح عنها لأنني رضعت لبانها منذ ولادتي ، وتربيت بها ، وعشت في أجوائها ، لكنني بحكم تخصصي في اللغة العربية ومعرفتي الطويلة بها ، ومعاشرتي لها ، وتعمقي في دراستها وتدريسها ، والاتصال بأهم مصادرها ومنابعها ، وبحكم معرفتي للغات الأخرى ، فإن الإنصاف العلمي يفرض ويحتِّـمُ عليَّ أن أقول : ( إن اللغة العربية هي أعظم لغة في العالم لما تمتاز به من ثراء واسع ، وتنوع رائع ، ومرونة كبيرة ، ومبادئ تطورية عظيمة ، وقواعد علمية متقنة إلى غير ذلك من الخصائص والمميزات التي تجعل اللغة العربية على رأس اللغات العالمية ، بل إنها أعظم هذه اللغات على الإطلاق ، وهذه هي الحقيقة العلمية المجـردة.
ويقول " آرنست رينان " عن اللغة العربية : ( هذه اللغة التي تبدو لنا بكل كمالها ومرونتها وثرائها الذي لا ينتهي ، تدفعنا إلى القول : بأنَّ هذه اللغة بلغت منذ بداياتها درجة الكمال ، وهي لم تتعرض منذ بداياتها حتى الآن لأي تعديل ذي بال ، وهي لغة لا طفولة لها ولا شيخوخة منذ ظهرت على الملأ ومنذ انتصاراتها المعجزة ، ولا يوجد لغة جاءت إلى الدنيا مثل هذه اللغة ) .
وفي معرض التدليل على ثراء اللغة العربية بالمصطلحات ، تَبيَّنَ أنَّها حقا أم اللغات حيث أنَّ حوالي 80 % من أفعال اللغة السكسونية ، و75 % من أفعال اللغة اللاتينية ، تأتي من أصل عربي.
لقد نبغ الكثيرون من علماء العرب والمسلمين في الفلسفة والطب والعلوم التجريبية والرياضيات والكيمياء مثل الرازي ، وابن سيناء ، ويعقوب الكندي ، وابن حيان ، وابن رشد ، وابن النفيس ، ومحمد الخوارزمي، وابن الهيثم وغيرهم كثيرون بِلُغَتِهم العربية الأصيلة. وفي هذا ردٌّ مفحم على الذين يتهمون لغتنا بالقصور عن مسايرة العصر ، وما من قصور إلا في نفوس الذين رهنوا أنفسهم للخارج بتبعيتهم وعدم انتمائهم لأمتهم ووطنهم.
إنه من المعيب والشائن بحقنا ، أن نجد الكثيرين من أبناء جلدتنا الذين تنكروا للغتنا العربية ، واتهموها بالقصور وعدم صلاحيتها للعصر ، بعد أن بقيت لأكثر من ألف عام ، لغة العلم والحضارة والثقافة ، نبغ خلالها عباقرة أفذاذ أغنوا المكتبة العربية بمؤلفات في جميع العلوم والفنون ، وفي شتى أنواع المعرفة بكنوز وفيرة ، وآثار هائلة متنوعة ، وتراث غزير.
وفي نفس الوقت ، نجد على الجانب الآخـر ، أن اللغة العبرية التي كانت مندثرة منذ مئات السنين ، ولم يكن لها تاريخ أوحضارة ، يقوم اليهود بإحياء لغتهم ، وقد أصبحوا خلال ستين عاما من قيام دولتهم على أرض فلسطين اغتصاباً ، يستخدمونها في كل مجالات حياتهم وفي الصناعة من الإبرة إلى الصواريخ وعلوم الفضاء . أما نحن فـإننا نستخدم اللغات الأجنبية وبالأخص اللغة الإنجليزية ونعتني بها أيَّمـا اعتناء ، في الوقت الذي نتنكر فيه للغتنا العربية التي تمثل هويتنا الوطنية وتاريخنا وحضارتنا ، وعنوان وجودنا. للــه الأمـرُ مِـنْ قـبْلُ ومِنْ بـعـدُ وإليهِ المُشتَكـى ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق