وجهان ورحلتان
ما بينها تلكم الهجرتين
وتلكمُ الرحلتين
خاطت أمي ثوب عودتها
حاكتها بالصوف بالآهات
رسمت على أطرافه أمانيها
ثم طوّقته بزينة الوجع
فاستوت على صدرها
عناوين غربتِنا!
إنها أمي التي قالت لي يوماً:
في عبابِ البحر سفينة
حملت أوجاعنا
في تفاصيلِ قصّتِنا!
ومضت على متن سفينة الغياب
تروي لمن معها
تفاصيل وجعنا !
وهناك سمعت أمي مثل الآخرين
صوتٌ ينادي عليهم
وفي أتون ِ الغيابِ
سمعنا جميعاً صدى صرخَتِها!
في رواقِ البيتِ الذي تركتهُ
كتاباتٌ على أطراف ضخرةٍ
وقفت على أطلالِ بوّابتِها!
هناك صورة أخرى تجسّدت
فوق عنق أشجار الزيزفون
على أوراقها ارتسمت
دمعة من حُرقَتِها !
صعبٌ فراق الأرض
فكيف بالحارات والناسِ
كيف تنسى تراب حديقتِها؟
كيف تنسى ألوانَ زرعتِها؟
وكيف تعيدُ الحلمَ
حين يبدأ الغيابُ
يكتبُ عن رحلتِها !
هي لن تنسى أول الرحيل
وصوت الرصاص يكسر الزجاج
يحطِّمُ أبواب حجرتِها
وينقلُ مع الريح صوتَ فجعَتِها
وبالبكائياتُ التي طلعَتْ
من حناجر الأطفالِ لوجعتِها !
هناك أيقنت معنى الرحيل
فاستوطنت عند الغياب مقبرة
على شواهدها كتبت:
ما أحلاها عند مقبرتِها!
ما أجمل أن تساكن الأموات
حين تجرّدت من المشاعر
من كل إنسانيّتِها
ثم وقفت وقالت: تركنا خلفنا
كل آثارِ نكبتِها!
هناك أشعلت شمعتين
وتحت ظلالِ الغيابِ
روَت قبر من كانوا بدمعتين
وفي أول الليل طلعَ الآذانُ
فتوقّفت عن البكاء
وصلّت والدمعُ يجري من مقلتِها
سألت روحها مرتين
أتلك القبورُ توحي بقبلتِها؟
يا لها سنابلُ الريحِ حول بلدتِها!
تتمايلُ دونما توقفٍ
كأنها تودّع من كانت كل صبح
تزرعها تارة وترويها
كم مرة سقتها تحت الشمس من دمعتِها!
وفي الرحلة الأخرى
صورٌ تناثرت حولَ وِجهَتِها
تتساءلُ النجومُ كم مرة يحينُ الغياب!
كم مرةً ستحدد لوجهَتِها
طريق الغياب ثم تحلم برجعَتِها!
هناك قدرٌ للفلسطيني
قدرٌ مضى مع الريح رحلتين
ودّع الفلسطيني أرضه وترابه
مرتينِ
حفر بيديه قبل المغيب حفرتين
هنا كنّا وهنا اختفى موعدنا
ولنا بعد الغيابِ رجعضتينْ!
فيا قدسُ سوف نرجعُ مرة أخرى
سنأتي نحمل الوعدَ
تتبعني كل أقمارِ الليل
تحكي تفاصيل رحلتِها
كل أجزاء الحكاية قبل عودتِها!
د.عماد الكيلاني
فلسطين القدس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق