كتب د سمير محمد ايوب
من حكاوي الرحيل ( الخامسة عشرة )
العنوسة الهلامية ظالمة
في يومٍ كانت سماؤه صافية ، ونسماته مثقلة برائحة الليمون والجوافة ، كُنْتُ تلبيةً لدعوةِ صديقي طبيب العيون الأشهر في إربد ، برفقة رائعة عبد الوهاب دعاء الشرق : يا سماء الشرق طوفي بالضياء . وانشري شمسك فى كل سماء . ذكّريه واذكري أيامه ، بهدى الحقّ ونور الأنبياء . كانت الدنيا ظلاما حوله ، وهو يهدي بِخُطاه الحائرينا . أرضه لم تعرف القيد ، ولاخَفَضَتْ إلا لِباريها الجَبينا . كيف يمشي فى ثَراها غاصبٌ ، يَملأُ الأفقَ جِراحاً وأنينا ؟ كيف من جناتِها يَجني المُنى ، ونُرَى فى ظِلِّها كالغرباء ؟
بهدوءِ مشوبٍ بغضبٍ حزين مُسْتّفّزٍّ، كنت أهبط مرتفعات أم قيس في الشمال الأردني ، بإتجاه قريةِ المخيبة على الضفة الشرقية لنهر الأردن ، المجاورةِ للجولانِ السوري المُحْتَل ، على الضفة الغربية منه .
وصلت الإستراحةَ المقصودة ، قبل الموعد المحدد للغداء بساعتين . فانتبذت مكانا قصيا شرقيا فيها . وإستقر بي المقام هناك على صخرةٍ ، تتيح لساقيَّ مُداعبةَ ما تبقى من ماءٍ ، شِبْهَ جارٍ في النهر . وما إن إستقر بي المقام ، سمعتُ من جهةِ الغربِ مِني ، دَنْدنةً أنثويةً خافتةً شجية ، لرائعة كامل الشناوي – فريد الأطرش : عُدْتّ يَا يَوْمَ مَوْلِدِي . عُدْتَ يَا أَيُّهَا الشَّقِى . أَلصِّبَا ضَاعَ مِنْ يَدِي . وغزا الشيب مفرقي . ليتك يا يوم مولدي ، كنت يوما بلا غدِ . سَلَمْتُ أذنايَ للدندنةِ . وتَتَبعتُ الصوتَ حتى وصلتُ إلى مَصدَرِه . تَنبَّهتُ لوجودِ امرأة كانت تجلس على مسافة ليست ببعيدة عني . ظلَلْتُ صامِتا ، مُؤْثِراً الإستماعَ إليها . لم أشأ أن أقاطِعَها ، بل تَعمَّدتُ الإنصات إلى بُحَّةِ الحُزْنِ فيما كانت به تًدَندِن ، وهي شاخصة العينين إلى الجولان المحتل ، على مرمى البصر .
تَنَحْنَحْتُ تَأدُّباً . تَلَفَّتَتْ قَلِقَةً بِرأسِها يَمنةً ويَسرة . في بادئِ الأمر ، جابَت عيناها المكانَ وهي تستكمل دندنتها ، فَلمحتُ بقايا دمعٍ كان في عينيها ، تُجاهِدُ لِلَمْلَمَتِه .
نَظَرتْ في اتجاهي ، في حالةٍ من الذهول ، غير مُصدِّقَةٍ ما كانت تشهده واقِفاً أمامها . اقترَبَتْ بِوُدٍّ لم تُحاوٍل إخفاءه ، وكأنها كانت تَسْتَعِدُّ لِضَمي . تَبَصَّرْتُ في ملامِحها وفي صوتها ، فعرفْتُها في الحال . أمسكتها من كتفيها ، ثم قُلتُ لا شيء . ناظرا إلى عينيها بفرح شديد ، تقدمنا معا إلى صخرتين متقابلتين ، لنجلس فوقهما . فحديث الذكريات يطول . ولا يصِحُّ وقوفاً . لم أبصرها منذ أكثر من ثلاثين عاما ، حين كانت عام 1980 ، واحدة من أنجب تلمِيذَاتي ، في جامعة بيروت العربية ، في لبنان .
أخَذَتْ نَفَساً عميقاً ، قبل أن تُجيب على حُزَمِ أسئلتي ألمتلاحقة ، ثم مَسَّدَتْ خُصْلةً غجرية من شعرها الطويل الناعم ، تهدلت فوق عينها اليسرى : أنا هنا منذ أقل من عام ، شريكة ومديرة لهذه الإستراحة السياحية . وأنت يا أستاذي وشيخي ، ما أتى بك إلى هنا ،في هذا اليوم الجميل ؟
أخبرتها حكاية الدعوة . ثم سَكَتُّ في حالةٍ من التأمل . وتابعت متسائلا بهمس ، وقد تمكن مني القلق والحيرة ، لما تشي به عيناها من حزن وبقايا دمع : ما بك دامعة العينين يا عزيزتي ؟
صمتت بحيرةٍ ، ثم همست وقد تمكن منها شيء من التوتر : البعض يا صديقي حبيس عقله أو قلبه ، وأنا حبيسة لعنة عنوسة هلامية . الشعور بها يرافقني ويضايقني ، وأحيانا تكسرني كوابيسها . أرْتحل منذ أمَدٍ الصبا والشباب . وما زلت مُستغرقة في عنوسةٍ كئيبة محيرة . ظاهرها كباطنها ، يعج بالكثير من النقائص والمتناقضات . ولا أشعر بالإرتياح للمسارات التي تتخذها . أعلم أن للعنوسةِ أسبابٌ ، بعضها أعجب من بعض .
صمتت قليلا ، ثم أكملت بصوت مرتجف ، دون أن تنتقي ألفاظها بحصافة : قل لي بربك ، فاليوم يوم مولدي ، أمحكومٌ علي أن أبقى أسيرةً لهذه العنوسة اللعينة ، مصارعة لتبعاتها اللزجة ، في كل ما قد تبقى لي من عمر ؟ وأنا حبيسة الوحدة والصمت ، الخوف منها يا شيخي يتغلغل قلبي .
فأنا منذ أن أعْلَنَتْ مُبكرا ، تضاريسُ جسدي العصيانَ والتمردَ ، على قوانينِ ما كان قد مضى من عَدِّ السنين من عمري ، تَسَيَّدَتِ الأنثى بدواخلي ، خشية من شماتة العنوسة . فبدأت تأهيل عقلي ونفسي ، للفستان الأبيض بكل مقدماته وتبعاته ومقتضياته .
وبَدأتُ رِحلةَ البحثِ المستحيل ، عن فارسٍ مُحتملٍ يُرضيني ، ويُرضي مَرجِعياتي الأسرية وحواضني الإجتماعية . بِدايةً قُصادي في الحي الذي كنت فيه أقيم. ثم تجاوزتُ إلى ما جاوره من أحياء قريبة أو بعيده . ومن ثم في الجامعة ، وفي كل عمل انتسبت إليه .
أرى حياتي ناقصة بلا أمومة . صَمْتُ العنوسةِ هو أول عتبة في الحزن المُميت . أتمنى في قرارة نفسي ، أن أوظف أنوثتي لما خُلِقَتْ من أجله ، وأن أصبح مثل أمي إمرأة وَلودا . وأن أشاغِبَ شَعْرَ بناتي وأنا أسَرِّحُه لهن .
وقفت وابتسامة ماكرة تعبر وجهها . نظرت بحزم في عيني ، ثم أكملت حديثها بتساؤل : أتساعدني على إزاحة قلقي وحيرتي ؟ أتَذْكُرَ يا أستاذي ، ما كنت تقول لنا وما أكثر ما كنت تقول ؟ ما أسوأ ان يكون المرء حَبيسَ وحدةٍ ، وحبيسَ يأسٍ ، وفي الوقت ذاته حبيسَ عجز .
قُلتُ جلوساً ، وأنا لا أتمالك نفسي من الإبتسام الحزين : كل شئ يصبح مع اليأس ككل شئ . لذا عليك أن تتذكري دائما ، أن الزواج ليس هو مهمة الأنثى الوحيدة ، بل هى ليست مهمتها من الأساس ، فهو حياة يمكنك السير فيها ، واختيارها أو العزوف عنها للأبد . لا يوجد ما يسمى قطار للزواج واحد ، لا بد من اللحاق به . الزواج نصيب . تعلمي واعملي وانطلقي واقرأي وتجولي، لا تتزوجي خوفا من لقب ”عانس”، أو بعدما مَلَلْتي من سماع سؤال حُشَرِيٍّ أبْلَهٍ : متى حَنَفْرَحْ بك ؟ لست في سباق : من سيتزوج قبل من ؟
أمسكت بيدي الممتدة باتجاهها ، لتساعدني على الوقوف وهي تقول مبتسمة : هيا فقد وصل صحبك .
وأكمَلَتْ وهي تقول بتأفُّفٍ : مرات كثيرة لا أصدق ما يقوله الناس أنه النصيب . ومرات أكثر أستسلم لهذا الوهم الهراء .
الدكتور سمير أيوب
الاردن عمان
30/11/2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق