الأحد، 27 نوفمبر 2016

قصة بعنوان { لقاء الخلد } بقلم الكاتب القاص الأستاذ جمال أبو ريا /فلسطين/ الجليل/ سخنين

قصة قصيرة
لقاء الخلد

بعض الحب الذي يولد من لقاء يموت لاحقا. ولكن الحبّ الذي يولد من فراق لا يموت أبدا.

يوم أن استيقظ على صوت الفجر الأوّل، علم بأن شيئا قد حدث، فقد اعتاد منذ سنوات أن يوقظه صوت زوجته. نظر إليها وهي نائمة بجواره، وبصوت متردد ناداها مرارا فلم تجب. تلمّس يديها ووجنتيها فلم يجد دفء الحياة بهما. أحسّ نبضها بارتباك حائر فهزه سكون الموت.

صرخ اليقين في الظلام معلنا: "إنها لحظة الفراق الأخير".

لم يصل حزنه حدّ بكائه. كان يعلم بأن جوار ربها خير لها من جواره، فلقد صبرت نصف قرن على فقره وطبعه وعقمه وغربتها معه. تذكّر قبل أكثر من أربعين عاما يوم كان مطاردا في الجبال ومحكوما عليه غيابا بالموت، تذكّر قولها وحرقتها في كلماتها:

"ستعيش يا صابر وسيكون يومي قبل يومك".

هي صدقت، أو كأنّ الله قد أجرى كلامها لصدقها.

تنهّد تنهيدة ألم وشكر وعرفان. وكما يفعل الأحياء للأموات، طلب لها الرحمة من الله. ثم ذهب إلى صلاة الفجر، وأبلغ من عرف، فصلّوا عليها الظهر، ثمّ ساروا بها إلى آخر منازلها من الدنيا. ازداد حزنه لما رأى ضيق القبر. تذكر ضيق حياتها معه. جلس على حافة الموت متسائلا وهو يهيل على جسدها التراب والحزن الأخير:

"ترى يا فاطمه، أتودّين أن نلتقي مرة أخرى؟"

عاد إلى عزائها محمّلا بذكرياتها معه، وفي المساء فرغ البيت من المعزّين وامتلأ فجأة بها، صار يراها في كلّ زاوية من زوايا البيت ويسمع صوتها وصوت تتابع خطواتها في كلّ أرجائه. دار البيت مرارا يستيقن حقا أنها ما عادت هنا. قال لنفسه وهو يخلع ثوبه ويومه الأخير متثاقلا:

"تركتها هناك في قبرها. تركتها وحدها كما تركتها من قبل لأيام بدون مال أو طعام، وما سألت نفسي مرة كيف تدبرت أمورها. كان همي وطني وكنت أنا وطنها، ووحدها أوطاننا تصنع أكبر خيباتنا".

إنها الأوطان تتشابه، فهي لن تشكر أبناءها إن هم صبروا على ظلمها وفقرها واحتلالها وفسادها، ولن تحبهم حقا إن هم عاشوا وقاتلوا وعملوا لأجلها. فقط ستشكرهم بعد أن يموتوا في سبيلها وكأن الموت وحده دليل الحبّ الأوحد، أو كأنّ الأحياء على ظهرها كلهم منافقون ووحدهم الأموات من صدقوا.

ما عادت أقدامه تحمل جسده الذي أثقل بخيباته. جلس على سريره مرهقا تعبا، نظر إلى خلوّ مكانها بجانبه فآلمه خلوّ عينيه منها. تسارعت نبضات قلبه تسابق العمر لعلها تعود عمرا فيبادلها عطفها وحنانها، أو لعلها تعود يوما فيبادلها بصدق صدق حديثها، أو لعلها تعود لحظة فيبادلها ابتسامة بريئة كابتساماتها.

علا صوته مختنقا بكلماته وقد خالط دمعه تجاعيد وجهه كأنه يراها وتسمعه:

"بالله سامحيني يا فاطمة، فالآن عرفت بأنّ ما كان لي وطن سواك أعيش لأجله. بالله سامحيني، فالآن فقط عرفت. الآن فقط".

ثمّ أجهش بالبكاء سبع دقائق كمن يبكي سنينه السبعين، بكى عمره وأيامه وآلامه كلها، لم يبك وطنه الذي عاش لأجله، بل بكى نفسه وزوجته فقط، بكى حتى صمت إلى الأبد.

كان الفراق الأخير فقط يوما. وبات ليلته التالية في قبره الذي جاور قبر زوجته، ربما لأجلها لا لأجله كانت رحمة الله به أوسع من وجعه، فكانت توبته نهاية لحياته وبداية لنقائه، وليكون لقاء الخلد بعد ذلك أجمل...
جمال ابوريا....
فلسطين الجليل سخنين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق