أقوى من رومانسية الكلام..
(قصة قصيرةبعنوان )
أحببتها ولم يكن بيدي، أحبتني ولم يكن خيارها، فقد ألف بين قلوبنــا من زرعها بين ضلوعنــا، فأوعز لقلبي أن يُشد إلى قلبها، من حيث لا تدري هي ولا يدري هو، ولا أظن أن أحدا يدري سبباً لهذا غير الذي يدبر أمري وأمرها. وأراد الله أن يختبر قلوبنـا بعد أن منحنا الحب، فأوجد عقبة في خطواتنا الأولى نحوه، ليرى ماذا يا تُرى نحن بنعمته فاعلون؟
ذات مساء، اتفقنا في إحدى مكالماتنا الهاتفية أن نلتقي صبيحة اليوم التالي، فقد كشفت لها عن نيتي في التقدم لأسرتها لطلب يدها، وأردت أن يكون أول مكان للقائنا بعد مكالمتي تلك هو ذاك المقهى الذي شهد ميلاد حُبنا وأوج اشتعاله، ليشهد هو ذاته ترتيبات تتويج حُبنا بالزواج.
ذهبت قبل الموعد كعادتي وجلست على ذات الطاولة في انتظارها، بعد قليل أقبلت نحوي متألقة كعادتها، وإن لم تبدو فرِحة مثلما كنت أتوقع في لقاء كهذا، بدت لي شاردة ومضطربة مذ اللحظات الأولى لِجلستها، أثار سبب اضطرابها حيرتي فبادرت في سؤالها عما بها.
بدت مُرتبكة وهي تجيب ساردة لي مقدمات طويلة، أرادت بها أن تفرش لي أرضية ممهدة من الرمال الناعمة، لربما تمتص عني صدمة ما ستقوله، أو تفلح في حمايتها من خطر التحطم كسراً إن إصابتها مني ردة فعل غير مأمولة.
وأخيراً أفصحت لي عما تسره منذ شهور بين ضلوعها، عن سر ذلك الحزن الذي يلوح بين الحينة والأخرى في عينيها. كان لسانها يتدفق في البوح والحديث، وعيناها مثبتة بعيني، تكاد نظراتها تخترقني، تحاول التغلغل بداخلي وقراءة ما يدور في أفكاري، تود أن تتبين أية دلالة من ملامح وجهي لوقع ما تقوله علي نفسي.
كان في حديثها مزيج من المرارة والأسى وهي تروي تفاصيل مأساة أسرتها مع إدمان شقيقها الوحيد، حكت لي عن معاناتها معه ومعاناة والديها، وعن خضوعه للعلاج في مشافي الإدمان أكثر من مرة ثم التعافي والعودة لرفقاء السوء مرة أخرى.
كانت تشعر بالخزي وهي تخبرني عن محاولته أكثر من مرة سرقة مصوغاتها، وعن آلامها المبرحـة التي تتلقاها إن اعترضت طريقه في إحدى نوبات هياجــه.
بدت لي هشة كما لم تكن من قبل وهي تنزع أمامي الإطار الذهبي لصورة أسرتها كما لا تود أي فتاة أن تبدو أسرتها في عين حبيبها. كورقـة سيجار كانت قابلة للاحتراق إذا ما خرجت مني كلمة معقبة أو مستفسرة ودون قصد أخطأت مقصدها. لهذا آثرت الصمت، تركتها تستكمل ما تود أن تخبرني إياه دون مقاطعة مني أو رد.
صمتت قليلاً وكأنها تبتلع دموعها، ثم استطردت تقول: " أتدري حينما يغادر البيت، في إحدى نوبات إدمانه، ولا نعرف له وجهة، يداهمنا إحساس أنه لن يعود لنا مرة أخرى، تكاد قلوبنا أن تتوقف مع كل رنين لهاتف أو كلما دق جرس الباب خوفا من تلقي نبأ يشي لنا بنهاية مصيره".
ثم عقبت بعد فترة قليلة من الصمت: "إدمان فرد بأي أسرة ليس بالأمر الهين على بقية أفرادها، وقبل أن تنضم لها وتكون فردا منها، وجب عليَّ أن أكشف لك حقيقة عُطب أحد أفرادها، ومن ثم يكن لك الخيار".
هو قدرُهــا ولم يكن بيدها أن تختار شقيقها، ولكني بقادرٍ على ألا أنتسب له وأجعل منه خالا لأبنائي. كيف سأواجه عائلتي والمعارف، وفي مُجتمعاتنا توصم الأسرة التي ينتمي إليها فرد مُدمن بالفشل والعار، وآجلاً أم عاجلاً سيعلم الجميع بأمر إدمانه وخاصة إن انتهى به المطاف قتيلاً إثر جرعة زائدة أو سجيناً خلف القضبان (هكذا كان يحدثني عقلي).
إنني أمام اختبار مدى حبي لها، اختبار لمبادئي التي طالما كتبت عنها في كُتبي ومؤلفاتي، لطالما تشدقت أن الرومانسية ليست كلمات نرددها أو نكتبها ولكنها أفعال نُظهرها وقت الشدة، وأي شدة أشد من هذه إن لم تظهر في وقتها.
إن التخلي عنها هو جريمــة في حقها لذنبٍ لم تقترفه قط، فنحن نجيء للدنيــا لا نختار أبوينــا ولا نختار أشقاءنـا منهم، فكيف نُحاسب من نحبهم على ما ليسوا لهم به من وزر. من منا المُحصن من ألا تنتابـه هو ذاته أو اقرب الناس إليه لحظة ضعف كهذه. كيف سأحيا بدونها، بلا قلبي وبلا مبادئ؟ وكيف سيمنحني القدر حباً من جديد وأنا لا أستحق؟ (هكذا كان يحدثني قلبي).
وبين حوار العقل والقلب، اشتد الصراع بداخلي فشردت عنهـا لدقائق يبدو أنها طالت قليلاً.
ظنت هي أن بقاءها أكثر في حضرة صمتي سيزيدها جُرحاً أمام نفسها وإحراجاً أمامي، فارتدت نظارتها السوداء قبل أن تزيدها دموع عينيها تحطماً أكثر وضعفاً أمامي.
أفقت من شرودي لحظة ما نهضت من طاولتنا مغادرة و متجهة صوب باب المقهى، ناديت عليها ولكنها لم ترد ندائي، يبدو أن صمتي الطويل أصابها بكثير من الخذلان دون قصد مني.
عدوت وراءها ولم أعر اهتماما لتلك العيون التي تطل من طاولات المقهى المُزدحم وتلاحقنا بالنظرات الفضولية المتسائلة.
خارج المقهى استجابت لندائي فتوقفت واستدارت ناحيتي.
بثلاث كلمات قررت حسم أمر الصراع بين قلبي وعقلي فقلت لها: "لا ذنب لكِ".
قالت لي: "ذنبي أنه أخي، وسيكون "هو" خالاً لأبنائك".
ثم استطردت تقول: "لو كنت مكانك لأستعملت عقلي ونجوت بنفسي".
قلت لها: "أنجو بجسدي، وقلبي ماذا أفعل به؟"
"لا تصغِ إليه".
"وأنتِ؟"
أجابت: "سيتدبر أمري رب الخلق".
"وأنـــا؟"
ردت: "تستحق من هي أفضل مني".
"أنتِ الأفضل ولا أريد سواكِ".
"ستتعذب معي".
"سنهون الحياة على أنفسنا، سنتشارك همومهــا وسنتجاوز معاً مصاعبهـا، أنتِ قدري وأنـــا قدرك وأخوكِ هو جزء من قدري".
"قد يتسبب وضعه ذاك في حرج لك أمام عائلتك والناس".
قلت بثقة: "سأتحدى العالم كله بكِ، وسأفخر بك دوماً بين الناس".
سألتني: "ألن تلومني في أي يومٍ؟"
أجبت: "لن أحملك وزر غيرك وما لا طاقة لكِ به، سيكون أخي أنا أيضا وسنمد يد العون إليه، حتى يمن الله بالشفاء عليه".
ابتسمت لي بامتنان وانسابت دموعها من خلف النظارة السوداء مُعلنة فرحتها بموقفي هذا وقراري.
جمال ابوريا
فلسطين الجليل سخنين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق