ثأر
(( حدث ما توقعته ، فما إن استلم الإدارة ، ووضع مؤخرته على كرسيها ، حتى أرسل بطلبي .
شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأن المدير ، لم ينتقل إلى الشركة إلاّ من أجلي ، وأؤكد بأنه يعرف أني أعمل هنا ، وإلاّ فمن أين علم بوجودي ؟!.. ليستدعيني بهذه السرعة !.
نعم ... كنت محقا عندما فكرت بأن أقدم استقالتي ، لن أدعه يشمت بي ، لن أعطيه فرصة للإنتقام ، سأقذف استقالتي بوجهه فور دخولي ، وإذا وجدت منه حركة أو كلمة يمكن أن تسيء إليّ، سأصرخ بوجهه دون خوف :
ـ ما زلت بنظري .. ذلك الطفل .. ابن " الزبال " ، وإن صرت مديرا كبيرا . )) .
ولأنه مستاء من مديره الجديد ، ولأنه لا يكن له سوى البغض ، فقد قرر أن لا يطرق الباب ، يرفض أن يقف للإستئذان ، أمسك القبضة بعنف ، فتح بجلافة ، وما إن أبصر المدير جالسا خلف طاولته ، حتى حدجه بنظرة قاسية ، ممتلئة بالكره والتحدي .
نهض المدير بعجلة ، وابتسامة عذبة ترتسم على شفتيه ، هاتفا بصوت كله صفاء :
ـ " حسين " !!.. أهلا وسهلا .. أهلا وسهلا .
تحرك من وراء طاولته ، ماداّ ذراعيه لملاقاة "حسين " ، الذي أدهشته المفاجأة . للوهلة الأولى ، ظن أن المدير يسخر منه ، وراح يقترب ببطء وحذر شديدين ، غير مصدق أنه سيضمه إلى صدره ، حيث سيلوث طقم المدير ببزته المتسخة .
تابع المدير ترحابه الحار ، بينما كان يقترب من العامل المتجمد الملامح ، ليأخذه إلى صدره ، ويضمه بقوة وشوق ، ثم ينهمر على خديه بالقبلات الحارة ، ورغم هذا ظلّ " حسين " محافظا على صمته وجموده ، وعادت عبارات الترحيب من المدير :
ـ أهلا " حسين " ، والله زمان .. كيف أحوالك ؟ .
ولأول مرة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن يحرك شفتيه ، ويتمتم ببرود جاف :
ـ أهلا حضرة المدير .
قهقه المدير من هذه العبارة الرسمية ، بينما سيطر الرعب على قلب " حسين " ، فأخذ يتراجع إلى الخلف ، في حين امتدت يده إلى جيبه ، لتقبض أصابعه على استقالته الجاهزة ، كسلاح يشهره بوجه المدير ، لكن المدير اقترب ، ليقول بلهجة المعاتب :
ـ أي " حضرة مدير " يا " حسين " !!!.. ، أهكذا تخاطبني ؟!.. سامحك الله ، نحن إخوة وأصدقاء .
لم يجد " حسين " ، سهولة في أن يطمئن لشخص المدير هذا ، فهو يرى كل كلمة ينطقها ، أو حركة يقوم بها ، سخرية منه ، لكنه في الوقت ذاته ، كان في منتهى الحيرة والإندهاش ، لأنه يكاد يلمس الصدق من نبرات صوت المدير ، ومن نظراته التي تفيض بالسعادة والمودة ، وتساءل في أعماقه الحائرة :
ـ أهذا معقول !؟.. هل أصدقه وأطمئن إليه ؟!.. هل نسي ما فعلته به ، ونحن أطفال ؟!.. أهو متسامح إلى هذه الدرجة ؟!.. أم يكذب وينصب لي فخا ؟!.
وانتبه إلى صوت المدير يطلب منه الجلوس على الكرسي الوثير .
في البداية ارتبك ، وحاول الإعتذار ، لكن إلحاح المدير ، جعله ينصاع ، ويقترب ليجلس على حافة الكرسي ، وكأنه يهم بالإنزلاق .
لم يجلس المدير خلف طاولته ، بل جثم على كرسي قبالته ، وبعد أن ربّت بيده على كتف " حسين " ، همس :
ـ مشتاق إليك يا " حسين " ... أكثر من عشرين سنة ، ونحن لم نلتق .
فكر أن ينهض عن كرسيه ، ويرمي استقالته بوجه صديقه ومديره ، ليخرج مسرعا من هذا المكتب ، لم يعد يطيق مثل هذا العذاب ، فهو في أوج حيرته ، هل يأخذ راحته مع صديقه المدير ، ؟؟؟ .. !!! .. أو يستمر في حذره ومخاوفه ، إنه لا يملك دليلا واحدا ، ولو صغيرا ، على أنّ المدير يسخر منه .
قدم المدير إليه لفافة تبغ ، وحين التقطها بأصابعه الراعشة ، كان المدير قد أخرج قداحته ، وخيل إليه أن المدير سيقوم بإحراق " شواربه " الغزيرة ، جفل للوهلة الأولى ، تراجع إلى الخلف ، لكنه أدرك أنه يبالغ في مخاوفه ، فدنا ليشعل لفافته :
ـ تصور يا " حسين " لم أكن سعيدا باستلامي الشركة ، إلاّ بعد أن قرأت اسمك بين أسماء الموظفين .. أنا بصراحة انتقلت إلى هنا ، دون رغبة مني .
همس بسره ، بعد أن نفث دخان لفافته بأنفاس متقطعة ، مضطربة :
ـ بالطبع ستكون سعيدا ، بوجودي ، فها أنت تقابلني منتصرا ، من كان يصدق أنك ستكون مديرا عليّ ذات يوم ؟؟؟!!!... أنا الذي كنت أهزأ منك في المدرسة والأزقة .
ومرة أخرى .. يخرج من شروده ، على صوت المدير :
ـ ماذا تحب أن تشرب ؟.
ـ أنا .. لا شيء .. شكرا .. ياحضرة المدير .
للمرة الأولى تنعقد الدهشة على وجه المدير ، وتذبل ابتسامته :
ـ مابك يا " حسين "؟!!.. لماذا تخاطبني بهذه الطريقة ؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية ؟!.
حاول أن يجمع شتات قواه ، ليهتف بصوت حازم :
ـ نعم يا جناب المدير ، أتمنى أن تكون العلاقة بيننا رسمية ، ورسمية جدا .
اتسعت الدهشة على وجه المدير المكتنز ، أرجع رأسه ،وأرسل نظراته المستطلعة ، لتقرأ ما يجول في رأس صديقه القديم :
ـ " حسين " .. ماذا جرى لك ؟!.. أخبرني أرجوك .. هل هناك ما يضايقك ؟!.
ولأنه مازال محتفظا ببقايا عزيمته ، قال :
ـ بصراحة ياحضرة المدير ، أنا حائر ، أكاد لا أفهمك ، وأشك بأنك تسخر مني .
دهشة المدير بلغت ذروتها ، مما جعلته يهتف باستغراب شديد :
ـ أنا أسخر منك !!!.. معاذ الله ... أنت صديق طفولتي .
نهض عن الكرسي ، الذي لا يتناسب وبزته .. قائلا :
ـ أنا لا أنسى كيف كنت أعذبك ، وأسخر منك أيام الطفولة .
انفردت أسارير المدير ، وعادت إليه الإبتسامة :
ـ معقول يا " حسين " !!!.. هل تظنني حاقدا عليك ؟؟؟.. كنا أطفالا .. اجلس ياصديقي .. اجلس ، حدثني عن أحوالك ، وعن زوجتك ، وأولادك ، ثم أخبرني إن كنت مرتاحا بعملك هنا ؟ .
قال المدير هذا الكلام ، في حين كانت يده ممتدة نحو صديقه ، ليرغمه على الجلوس .
همس " حسين " بتلعثم واضح :
ـ أنا خجل منك .. ومن نفسي ، لقد كنت طفلا شريرا ، عذبتك كثيرا ، وأهنتك .
نظر المدير صوب صديقه بحنان ومودة :
ـ هل تصدق ، إني أحن إلى أيام الطفولة تلك ، أنت صاحب فضل عليّ ، فلولا سخرياتك مني ، ومن والدي عامل التنظيفات ، لما تابعت تعليمي ، كنت أنت بمقالبك المريرة دافعي للتحدي والدراسة .
في تلك اللحظة ، طفرت من عيني " حسين " دمعتان صغيرتان حارتان ، قفز ليحتضن صديقه ، الذي طالما أمعن في تعذيبه ، همس بصوت تخنقه العبرات :
ـ أنت عظيم يا " عبد الجليل " ، طوال عمرك كنت أفضل مني ، أرجوك سامحني .
تربعت الدهشة على وجه الآذن ، وهو يدخل حاملا القهوة ، لقد رأى المدير الجديد المفرط في أناقته ، يعانق العامل " حسين " ، ذي البزة القذرة ، المتسخة ، وكانا ذاهلين عنه ، في عناق طويل .
مصطفى الحاج حسين .
سورية حلب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق